لماذا يختلف الناس في الاحتفال بمولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
(دراسة أصولية مختصرة)
.
اسمحوا لي أيها الأحباب أن ألخص المستند الشرعي لهذه المسألة وكما يأتي:
نعم لقد نهى الإسلام عن الابتداع في الدين، وهذا أصل متفق عليه،
لكن ما معنى الابتداع في الدين؟ لقد كثر الجدال حول هذه النقطة، والذي يطمئن إليه القلب أن معنى الابتداع المنهي عنه يتلخص في: تشريع عبادة (خاصة) من غير دليل، لأن العبادة طاعة، والطاعة من دون أمر لا تسمّى طاعة. والمقصود بالعبادة هنا : العمل الذي لا يقصد به إلا الطاعة والقربى لله تعالى كالصلاة والصوم والحج ونحوها، وهذا لا يشمل الأمور الآتية:
1- الأمور الدنيوية الحياتية كالأكل والشرب واللبس والسكن والسفر والصناعة والزراعة والتجارة، فالأصل في كل هذا الإباحة إلا إذا ورد نهي بدليل صحيح. فالابتداع هنا -إن صح التعبير- متاح ومباح بشكل مطلق.
2- الأمور المطلوبة في الشرع لتحقيق غايات معلومة وملموسة وهي (العبادة بالمعنى العام) مثل: طلب العلم، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، وأداء الحقوق للناس،
فهذه عبادات نعم لكن حكمها يختلف عن العبادات بمعناها الخاص كالصلاة والصوم، فهذه النقطة حكمها حكم النقطة الأولى، بمعنى أن الأصل فيها الإباحة بما يحقق مقصود الشرع، بل أنت مثاب على ذلك، ويجوز لك أن تستخدم الوسائل الحديثة وتترك الوسائل المنصوص عليها والتي كانت تناسب زمن التشريع، فنحن اليوم نبني الجامعات ومراكز البحوث ونستخدم الأجهزة الإلكترونية الحديثة حتى في تعليم القرآن الكريم، ونستخدم السيارة والطيارة في الحج، ونستخدم الدبابات وليس الخيول، مع أن القرآن نص على (رباط الخيل) لكن لا أحد يقول: إن الدبابة بدعة لأنها تخالف النص وأنه لا اجتهاد في معرض النص.
في ضوء هذه المقدمات أين تقع مسألة الاحتفال بالمولد؟
أتابع أقوال المعارضين في كل سنة فأجد كثيرا منها يدور حول ما لا ينبغي الخلاف فيه، مثل: أن هذه حادثة وأن السلف لم يعملوا بها، وهذا التخريج لا يكفي أبدا في التحريم، كما هو واضح من النقطتين السابقتين،
ولقد رأيت جميع العلماء من شتى التوجهات لا يتحرجون من استخدام الطرق المبتكرة في حفظ القرآن وتعليمه وتفسيره وطباعة المصحف بهذا الشكل مع وضع الحركات والإشارات التي لم تكن في مصاحف الصحابة -رضي الله عنهم-، وكذلك الاجتهاد في بناء المساجد بهذه الهندسة (وكل هذه عبادات بالمفهوم العام للعبادة)، بل حتى الدعاء الذي هو عبادة بنص الحديث لم يشترط أحد الوقوف عند الصيغ والكيفيات الواردة، وكل هذا وغيره كثير دون نكير من أحد معتبر، ولا اعتراض بقول: لو كان خيرا لسبقونا إليها،
بعضهم يستند إلى ما يصاحب بعض الاحتفالات من منكرات ومخالفات، وهذا إن حصل فهو حق ينبغي التعاون في النصح والتذكير والنهي عن هذه المنكرات، لكن هذه لا تعني أن الاحتفال بذاته محرّم، وإنما المحرم هو هذه المنكرات فقط.
البعض الآخر يحرمها ويراها بدعة حقيقية لأنه يرى أن الناس يتعاملون معها كعبادة دينية (خاصة) يعني مثل: العيدين، أو يوم عرفات، أو رمضان، ولا شك أن هذا لو حصل فهو في غاية الخطورة، إذ أن المناسبات التعبدية مناسبات توقيفية، لا مجال فيها للاجتهاد بالهوى أو بالرغبات والعواطف، لكن الذي رأيته في كل احتفالات العراق أن الناس يتعاملون مع المولد النبوي كمناسبة تاريخية جميلة يتذاكرون فيها سيرة النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وشمائله وأخلاقه،
ولم أر أحدا يجعلها مناسبة لابتداع شعائر معينة كما يفعل المبتدعة الباطنيون في مناسباتهم من اختراع لشعائر تشبه الطواف والسعي ونحو ذلك.
والخلاصة التي أفتي بها: أن من تعامل مع المولد النبوي كما يتعامل مع ذكرى الهجرة ومعركة بدر وفتح القدس مثلا، وبالضوابط الشرعية، فلا حرج في ذلك، ومفهوم البدعة لا يشمله.
أما من جعله عيدا ثالثا له شعائره وطقوسه الدينية الخاصة به والمخترعة فهذا باطل وهو يجرّ عامة الناس لو تساهلنا فيه إلى ما يشبه الشعائر والعبادات المخترعة عند الباطنيين الذين وصل بهم الحال إلى اختراع دين جديد لا يشبه الدين الذي نقرأه في القرآن الكريم أو في سنة نبينا عليه الصلاة والسلام.
والحقيقة أني أرى في هذه المداخلة توضيحا لكثير من المسائل التي هي محل خلاف في مشروعيتها أو بدعيتها، وليست مقتصرة على مسألة المولد النبوي.
والله أعلم وأحكم وأرحم
.
د . محمد عياش الكبيسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق